فخ الذاكرة " 2-2"

هناك فكرة وجودية في الحنين لذاكرة الأمس والأيام خلاصتها اليقينية أن الزمن لا يمكن استعادته، وكل محاولة لإرجاعه هي محاولة عبثية مستحيلة بل ومؤلمة. لذلك يتحوّل الماضي إلى شيء مقدّس أو مثالي في الخيال. فكل ما لا يمكن الوصول إليه يتحول إلى حلم ومعجزة ثم يصير فكرة تأخذ شكلها المقدس الذي لا يمس تدريجياً.

باختصار فكل شيء نفقده نصنع له «أسطورة صغيرة» في الذاكرة، نظل نجترها في أوقات الحاجة، كذكرى الحبيب الذي رحل، ومنزل العائلة الكبير الذي تلاشى مع الوقت، ومرابع الطفولة واللهو الذي لا يستعاد!

يقول أحدهم «لا تعد إلى المكان الذي كنت فيه سعيداً يوماً ما، فذلك فخٌ من فخاخ الحنين!» وهي عبارة تحمل من المعنى وخلاصة التجربة الكثير، إذا أردت أن تعرف السبب، تذكر فكرة كانت تعشش في ذاكرتك زمناً طويلاً، فكرة تعود لأيام الطفولة ربما، كتفاصيل البيت الذي ولدت فيه أو المدرسة الأولى التي تعلمت فيها، هذه الأمكنة تظل مخزنة في ذاكرتك على هيئة وملامح وأبعاد محددة، وتظل أنت تستعيدها لسنوات طويلة كما تحفظها ذاكرتك، لكنك بمجرد أن تقرر العودة إليها ورؤيتها فإن شيئاً أشبه بالصدمة ينتابك، إن تلك الأمكنة ليست كما كنت تظنها، إنها مختلفة تماماً، فينكسر شيء جميل في داخلك!

هناك أشياء كثيرة في ذاكرتنا صنعها وهم الذاكرة، وهناك أشياء تغيرت مع الزمن ولن تكون كما كانت، حتى نحن كما وصفنا الشاعر «لا أنت أنت، ولا الزمان هو الزمان».

فلا تحاول أن تبحث عن نفس الوجوه، ولا نفس الأمكنة، من منطلق الرغبة في استعادتها وبعث الحياة فيها، فالزمن قاهر، وقد يتواطأ الواقع على هدم ما جعلك سعيداً لزمن طويل!

لا تعد لأشخاص كنت تعرفهم منذ سنوات طويلة، أو لا تعد وأنت تظن أنك ستجدهم كما كانوا، احتفظ بتفاصيل الزمن والبشر في ذاكرتك، كن وفياً، لكن لا تعُد، فالحياة تمضي، وهناك أمكنة وبشر ودروبٌ مختلفة في القادم من الأيام.