الانتماء والمواطنة

منذ عدة سنوات، التقيت سيدة عربية جاءت في زيارة عمل لدبي، وطلبت مقابلتي، فالتقيتها على فنجان قهوة في أحد المراكز التجارية العامرة بالحركة والزحام.

على السلم المتحرك الذي كان يهبط بنا، حيث المقهى، كانت السيدة منشغلة بتأمل وجوه الأعداد الكثيرة من الذين كانوا يصعدون السلم للطابق العلوي، وكانت تعبيرات وجهها تتأرجح بين الابتسام وشيء من الدهشة.

بعد أن أخذنا أماكننا جاء النادل ليأخذ طلباتنا، فنظرت إليه السيدة، فتبسّم لها وانصرف.

أتذكّر كلماتها جيداً، لا تزال عبارتها عالقة في رأسي حين قالت: «أكثر ما أثار دهشتي ليس المركز التجاري بفخامته ولمعانه، وليست أعداد البشر الهائلة، ولكن هذا الهدوء ومسحة الرضا التي تبدو جلية على وجوه الجميع، لم أر وجهاً غاضباً أو شخصاً يتحدث مع مرافقه بغضب، حتى النادل كان يبتسم بلطف لا ببلاهة، كما يحدث في الكثير من مقاهي العالم، أو بطريقة آلية، لقد ابتسم لنا الشاب بأدب ولطف حقيقيين!».

لم أفهم جيداً النتيجة التي توصلت إليها من خلال ذلك؟ لم أسألها، فقد أكملت استنتاجاتها قائلة: هذا يعني أنهم مطمئنون، وراضون تماماً، لأن الغضب والقلق والشعور بعدم الراحة تجعل الناس تبدو متوترة وتتحدث بغضب، كما تتصرف بعدائية، وهذا يعني أنهم برغم كونهم مختلفين في كل شيء، كما يظهر جلياً من سحناتهم وألوانهم ولغاتهم، إلا أنهم متعايشون معاً بسلام وأمان، ليس شرطاً أن يتصادقوا ويتواصلوا بشكل عملي، لكنهم على الأقل محتفظون بالحدود الجيدة التي تجعلهم يتعايشون معاً بعيداً عن أي عدائية يمكن أن تحوّل هدوء المجتمع إلى فوضى وعبث وتدمير، كما في مجتمعات كثيرة!

هناك درجة واضحة من الالتزام بقوانين المجتمع، وهناك انضباط وضبط أمنيان، لا بد منهما لضمان استقرار الحياة، واستمرار مشاريع التطور والتنمية ومصالح الجميع، لكن الأهم أن تعددية واختلاف الجنسيات والعرقيات والثقافات في الإمارات أنتجت تجربة تعايش عظيمة بالفعل، أفادت المجتمع وانعكست إيجابياً على حياة كل هؤلاء البشر الذين جاءوا من جهات الأرض ساعين نحو حياة أفضل، ليجدوا أنفسهم مواطنين حقيقيين، وليسوا مهاجرين، وإن لم يحملوا جنسية البلد، لأن المواطنة في أوضح معانيها هي الانتماء للمكان بإخلاص، والحفاظ على ممتلكاته وأمنه.