أسرار لا تفسير لها!

الكاتب الأمريكي «وليم فوكنر»، الذي نال جائزة نوبل للآداب عام 1949، كان يخصص لنفسه فترة من الزمن كل عام لقراءة أعمال دوستويفسكي، كما يفعل كثيرون مع أعمال نجيب محفوظ، ما يؤكد أن مثل هذه القامات الأدبية والأساتذة الكبار ما زالوا يفرضون أنفسهم على ذائقة أجيال شابة رغم تباعد السنين والأحوال بينهم، هذا هو الخلود الذي نجح هؤلاء العمالقة في سبر أسراره وتحقيقه فيما تركوه من أعمال. وهو خلاف النظرية التي يقول بها البعض من أن هذه الأسماء الكبيرة قد تجاوزها الزمن، باعتبار أن لكل زمن أدبه واهتماماته وكتّابه وروائييه!

لقد مضى على وفاة دوستويفسكي قرابة الـ 200 عام، ومع ذلك فإن الرجل حي بأدبه ومؤلفاته، حتى إنني وأنا أتجول في شقته التي عاش فيها أواخر أيامه بإحدى ضواحي مدينة سانت بطرسبرغ، شعرت بأن شغف الزوار واهتمامهم بتفاصيله، يجعلانه حياً أكثر من أي كاتب يعيش بيننا، لقد ألهم دوستويفسكي الكثير من الكتاب وحتى العلماء، حتى يقال إن سيجموند فرويد قد استلهم أسس علم التحليل النفسي الذي وضعه من روايات دوستويفسكي، وعلى الرغم من ذلك، فقد عاش أواخر حياته مديوناً ملاحقاً من الدائنين!

هذا الأمر يذكّر بما قالته مستشرقة روسية من أن مبيعات كتب دوستويفسكي الذي عاش معظم حياته وهو في حاجة إلى المال، تصل إلى مليارات الدولارات في أنحاء العالم، تماماً كما تصل قيمة بيع لوحة للفنان العالمي فان جوخ إلى ملايين الدولارات في الوقت الذي توفي فيه هذا الفنان وهو تحت طائلة الفقر والجوع.

لم يستطع أي كاتب معاصر أن يقارب مستوى هؤلاء الأساتذة والمعلمين الكبار الذين عاشوا قبل أربعة قرون ربما! ما يجعل السؤال مطروحاً باستمرار عن السر الذي أعطى هؤلاء المبدعين هذه القوة الابداعية وهذا التأثير الذي لم يخبُ ولم يتلاشَ رغم تبدّل الظروف والأزمنة والاهتمامات! الأمر يبدو غريباً بعض الشيء، فما سبب قوة هذا النتاج وصموده وخلوده؟ وما السبب في إعجاب الأجيال الجديدة والصغيرة به رغم اختلاف الذائقة والاهتمامات؟ يبدو الأمر أحياناً أشبه بمعجزتيْ بناء الأهرامات والحدائق المعلقة، وقريباً من سر التحنيط عند المصريين! أسرار لا تفسير لها!!