تعيش المجتمعات في هذه العقود عصراً جديداً من التفاعلات الحضارية البشرية، أوجدت فيه العولمة حالة جديدة من التشابك والتداخل والانفتاح بين الدول والشعوب، لتلتقي أمواج من الثقافات والعادات والتوجهات والأفكار والتجارب، فتتقاطع معها فرص مشتركة للتعاون والتعارف والتعلم.
وفي الوقت ذاته تتجلى أمام كل مجتمع تحديات كبيرة تتطلب الحفاظ على الهوية الوطنية والعادات الأصيلة والقيم الحضارية، وتحقيق حالة من التوازن بين الثبات والتجديد وسط هذا البحر المتلاطم من التأثيرات.
لقد اختزلت العولمة المسافات، وسهلت تدفق المعلومات بطرق غير مسبوقة، وفتحت الأبواب أمام ثقافات متعددة، حتى أصبح هذا واقعاً نعيشه ويعيشه أبناؤنا وبناتنا، سواء عبر تقنيات الاتصال الحديثة التي تجعلنا على تواصل دائم عبر الهواتف الذكية، أو عبر وسائل النقل التي اختصرت الزمن والمسافة.
فتحولت الرحلات التي كانت تستغرق أياماً إلى ساعات معدودة، ما جعل الجميع يعيش تجربة مختلفة تماماً، تستدعي وعياً عميقاً يمكنهم من استيعاب الفرص، والتعامل الرشيد مع التحديات.
وهنا تتجلى أهمية ترسيخ القيم الوطنية التي تحقق هذه الغايات، وتجعل الإنسان يسير على أرضية صلبة تمكّنه من حسن التعامل مع هذا الواقع، وفق نهج مستنير يجمع بين أصالة الجذور الراسخة وتجدد الأغصان الممتدة، لتأتي هذه الأشجار من كل ثمر بهيج.
وتتجلى في مقدمة هذه القيم قيمة الولاء والانتماء وتعميق الحس الوطني، التي تجعل الإنسان مرتبطاً بوطنه وقيادته ارتباطاً وثيقاً، كارتباط الروح بالجسد، لا ينفك عنه في حضر أو سفر، ولا يتغير مهما تبدلت الأحوال والظروف، ومهما كانت المؤثرات والمغريات، ارتباطاً يجد فيه هويته وانتماءه الثقافي، فلا يرى نفسه فرداً منعزلاً، بل جزءاً أصيلاً من وطن له قيم وإنجازات وتاريخ.
فتنمو داخله مشاعر الفخر والمسؤولية، ويجد دافعاً مستمراً للعطاء والالتزام ورد الجميل لهذا الوطن، والدفاع عنه حين يساء إليه، والمبادرة إلى رفعته ونهضته، والتعبير عن أخلاقياته وثقافته قولاً وسلوكاً أينما كان، واعتبار ذلك أمانة في عنقه، فيكون جداراً منيعاً ودرعاً متينة لا يخترقها سهمُ ثقافةٍ دخيلةٍ أو فكرٍ مغرض.
ومن القيم الوطنية المهمة كذلك قيمة الهوية الثقافية، بما تمثله من ركيزة أصيلة تحفظ للمجتمع ملامحه، وتقيه من الذوبان في محيط التأثيرات الوافدة، هذه القيمة التي تترجم في اللغة التي ننطق بها.
وفي القيم التي نربي أبناءنا عليها، وفي الصور التي نعكسها عن أنفسنا في المحافل والمنصات التي نطل بها على الآخرين، والأجمل أن يرى الجيل في هويتهم مصدر تميز وفخر، ويجدون فيها أسساً للحوار مع الآخر من موقع الثقة والتكامل لا من منطلقات عقدة نقص أو غيرها.
ومن هذه القيم كذلك قيمة المسؤولية، التي تجعل الفرد عضواً يسهم بفعالية في نهضة الوطن، وحماية نسيجه المجتمعي، والالتزام بأنظمته وقوانينه، والاصطفاف خلف قيادته، والالتزام برؤيتها ونهجها في التعامل مع المواقف والقضايا، سواء في الواقع الحي أو الافتراضي.
هذه القيمة التي تجعل كل فرد يدرك واجبه في مواجهة التحديات التي قد تطل من هذا العالم أو ذاك، والتصدي للأفكار الهدامة والانحرافات الفكرية والشائعات المغرضة التي تهدد النسيج الاجتماعي، وتكرس روح التطرف أياً كان شكله واتجاهه.
ومن أهم هذه القيم الوطنية كذلك لمواجهة التأثيرات السلبية للعولمة، قيمة التكاتف والتكافل المجتمعي، فإن من أخطر ما قد تسببه العولمة التفكك الخفي الذي قد يصيب المجتمعات من داخلها، حين تنزاح القيم من مركز الحياة، ويحل محلها الفراغ والانفصال الاجتماعي والفردانية.
فتضعف الروابط الاجتماعية، ويزداد الانعزال، ما يجعل المجتمع عرضة للتفرق والتأثيرات السلبية التي قد تعصف به من الداخل قبل الخارج، ومن هنا فإن التأكيد على التلاحم المجتمعي وترسيخ روح التعاون والتعاضد بين أفراده من أقوى السبل لمواجهة هذه التحديات.
والذي يتطلب تعزيز الشعور بالانتماء المشترك، وترسيخ قيم المحبة والاحترام المتبادل، ونشر ثقافة التعاون والتسامح والوئام، وتعزيز روح التلاحم والتكاتف ووحدة الصف، وخاصة في الأزمات والتحديات.
إن ترسيخ هذه القيم وغيرها يتطلب جهوداً وطنية مشتركة، تتكاتف فيها الأسرة والمدرسة والإعلام ومنابر الجمعة والمنصات الثقافية وغيرها، لتصبح رياضاً خصبة تزهر فيها بذور القيم النبيلة، فتثمر تنمية مستدامة، ورفعة متجددة، وقوة صلبة، تعلو بالوطن في حاضر مشرق ومستقبل واعد.