محمد بن فارس.. الأشهر اسماً والأعلى مقاماً في فن الصوت

فن الصوت هو أحد الفنون الشعبية الأكثر شهرة في الخليج العربي، ولا سيما في البحرين والكويت، وإذا كان في المنطقة ميل لفنون شعبية وتراثية أخرى مثل العرضة والسامري والفجري والخماري فإن الميل إلى «فن الصوت» هو الأقوى «خاصة عند الرجال»، والأكثر تعبيراً عن أحاسيسهم، والأقرب إلى مسامعهم بما يولده من أنغام تعتمد على العود، وايقاع يعتمد على «المرواس»، وحركة تعتمد على التصفيق المتناغم و«الزفن» «نوع من أنواع الرقص».

لقد أصبح فن الصوت فناً خاصاً ببيئة الخليج وعنواناً لتراثه الغنائي، وصدى لإبداعات شعرائه، وتجسيداً لتاريخه العريق وحكايات ناسه في العشق والهيام والسفر والحنين والتواصل.

يخبرنا خالد عبدالله خليفة في مجلة الفنون الشعبية (العدد 13) قائلاً ما مفاده أن مصطلح «الصوت» ورد في كتب الأقدمين الموسيقية للدلالة على الشعر الملحن، وأن هناك اختلافاً كبيراً بين الصوت البحريني والصوت الكويتي من حيث أسلوب الأداء الفردي أو من حيث الصياغة اللحنية والنبرات الصوتية، وطريقة الاستهلالات والنصوص الغنائية والجو الفني العام، ولكنهما يتفقان في الجانب الإيقاعي.

وإذا ما نقبنا في تاريخ فن الصوت الخليجي فسنجد أن رواده الأوائل في الكويت والبحرين تعرفوا ابتداء على الفنون الموسيقية، ونقبوا في مدارسها المختلفة من خلال رحلاتهم إلى الهند وأفريقيا، وامتزاجهم هناك بثقافات متنوعة، ثم عكفوا على دراسة ما سمعوه، بهدف تطويره وإعادة صياغته في قوالب جديدة، ونشره بروح مختلفة تعبر عن بيئة الخليج وسكانه.

وهكذا ظهر فن الصوت الخليجي في الكويت في أواخر القرن 19 على يد عبدالله محمد الفرج (1836 ــ 1901)، ثم انتقل إلى البحرين، ليقوم فنانوها بوضع بصمتهم الخاصة عليه، وبعد ذلك واصل رحلة انتشاره إلى قطر وعمان والإمارات، فإلى عدن وحضرموت، ثم إلى الحجاز، حيث برز في كل بلد من هذه البلدان من حمل لواءه، وأضاف عليه لمسته الخاصة.

اختصر حسين مرهون رحلة الصوت الخليجي فكتب في «مجلة الفنون الشعبية» البحرينية (العدد 12) ما يلي: «إن المتتبع لمسيرة فن الصوت في عموم الجزيرة العربية قبل أن يكون في البحرين، وفي البحرين قبل أن يكون عند محمد بن فارس، وعند محمد بن فارس قبل أن يُصار بين يدي تلاميذه، لا مناص من أن يخرج بمحصلة، فحواها أن هذا الفن قد اتسم في جانب منه، كما سواه من البضائع المتخذة صبغة الثقافة، بطابعي الرحلة والاستيطان ثم الرحلة مرة أخرى.

وفي كل مكان استوطنه كان يغتني، ويعيد إنتاج نفسه وفقاً لشروط الأقلمة والبيئة، التي ارتحل لها.

وكانت البحرين أحد المواطن التي شهدت واحدة من أهم عمليات الأقلمة، بما صاحب ذلك من إعادة إنتاج لهذا الفن ومروره بدورة العمليات التحويلية، التي تمر بها أية بضاعة ثقافية».

وفي البحرين، التي تعد واحدة من أهم منابع فن الصوت الخليجي، تولى الفنان محمد بن فارس إدارة مدرسة الصوت وصناعة وتوجيه طلبتها، وتعليمهم أصول هذا الفن، حتى غدت البحرين لا تذكر في الأدبيات الموسيقية الخاصة بفن الصوت الخليجي إلا ويذكر معها اسم محمد بن فارس كونه رائداً من رواده، ومؤسساً لمدرسة متميزة من مدارسه، ومعلماً فذاً تخرّج من تحت يديه أساطين الطرب الشعبي القدامي كضاحي بن وليد (1895 ــ 1941)، ومحمد زويد (1900 ــ 1982) على سبيل المثال، فلا غرابة بعد ذلك لو عثر السائح في البحرين على أكثر من مكان ومعلم وصرح يحمل اسمه تخليداً لذكراه مثل: «بيت محمد بن فارس لفن الصوت الخليجي (شيد من قبل مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث في الموقع الأصلي لبيته بمدينة المحرق، وافتتح رسمياً في سبتمبر 2005)، و«فرقة محمد بن فارس للفنون الشعبية» (تأسست سنة 2001 وتتكون من نخبة من المطربين والموسيقيين وفناني الفرق الشعبية المتميزين ممن يؤدون ألواناً مختلفة من الفنون والأغاني التراثية والفلكلورية البحرينية)، و«قاعة محمد بن فارس» (تقع على مقربة من بيت محمد بن فارس لفن الصوت، وتتبع مركز الشيخ إبراهيم بن محمد للثقافة والبحوث، وتقام فيها بشكل منتظم أمسيات موسيقية مجانية، تحييها فرقة محمد بن فارس الشعبية)، و«حديقة محمد بن فارس» (حديقة عامة بمساحة 10240 متراً في مدينة الرفاع الشرقي بالمحافظة الجنوبية قامت وزارة البلديات والزراعة بإطلاق اسم الفنان عليها).

ولد محمد بن فارس بن محمد بن خليفة بن سلمان آل خليفة بمدينة المحرق في عام 1895، لأسرة عريقة النسب، عالية المقام، فطبقاً لما أورده مبارك عمرو العماري قي كتابه «محمد بن فارس، أشهر من غنى الصوت في الخليج» فإن جده لأبيه هو الشيخ محمد بن خليفة بن سلمان حاكم البحرين من عام 1843 إلى 1868، أما والده فهو فارس بن محمد، الذي ولد بالمحرق في 1862، وتوفي في 1935 بجلطة دماغية، ودفن في البديع، أما والدته فهي خديجة ابنة الشيخ علي بن خليفة بن سلمان، حاكم البحرين المتوفى سنة 1869، وأما إخوانه الذكور فهم عبداللطيف ومحمد وصقر، وجميعهم تعلموا العزف والغناء وعشقوا الفن والموسيقى والطرب الشعبي.

تعلم بن فارس القراءة والكتابة والحساب في الكتاتيب التقليدية، ونشأ متأثراً بجمال الطبيعة، من خلال بساتين والده، الأمر الذي ولّد في نفسه شفافية ورقة وشاعرية انعكست على أعماله الفنية لاحقاً.

كما أنه أصيب في أنفه في حادثة جموح أحد الجياد خلال سباق للخيل كان يحضره في شمال المحرق سنة 1904، ما تسبب في ظهور «غنّة» في صوته، أضفت عليه صفة جمالية.

أولى منذ سنوات صباه وشبابه اهتماماً خاصاً بالفن والطرب، على الرغم من أن الاشتغال والانشغال بهكذا المجال في مجتمعه وزمنه كان أمراً مستنكراً. ويفسر مبارك العماري (مصدر سابق) عدم معارضة عائلته لتوجهه الفني بوجود من سبقه داخل الأسرة إلى الفن، وبالتالي كان الطريق معبداً أمامه وحظي بالدعم والمساندة.

قاده الشغف بالموسيقى إلى تطوير فن الصوت الشعبي، الذي وصل إلى مسامعه من خلال النصوص والألحان المتداولة آنذاك في منطقة الخليج العربي، أو النصوص الشعرية اليمنية والحجازية، التي كانت تصله من مجايليه خلال مسامراتهم. ويمكن القول إن شقيقه الأكبر «عبداللطيف بن فارس آل خليفة» (1887 ــ 1961)، الذي كان عازف عود ماهراً، وكاتب نوتة موسيقية، وصاحب صوت جهوري، وناظم قصائد بالفصحى والنبطي، لعب الدور الأهم لجهة صقل مواهبه الموسيقية، وتوفير البيئة الفنية والأرضية الخصبة له كي يقف على قدميه وينطلق، حيث علمه العزف على العود، وأمده بالكثير من النصوص الغنائية المتوفرة آنذاك، فلحنها وغناها بصوته الرخيم، وسجل بعضها على أسطوانات.

وإن كان لشخص آخر فضل على بن فارس غير شقيقه عبداللطيف فهو بلا شك الفنان «عبدالرحيم صالح العسيري» أو «عبدالرحيم صالح اليماني»(1855 ــ 1940)، فهذا الأخير الذي نسبته الروايات تارة إلى الحجاز، وتارة إلى اليمن، وتارة ثالثة إلى عسير كان شخصية فنية احترفت الترحال والتنقل بفنه، ولعبت دوراً في حفظ وإثراء المصادر الفنية، التي استقى منها بن فارس فنه، خصوصاً أن لقاءات فنية كثيرة جمعتهما في البحرين ثم في بومباي، إذ إن العسيري زار البحرين قبيل الحرب العالمية الأولى بعام واحد أي في سنة 1913، وأقام بها عدة أشهر، وترك أثناءها تأثيراً بالغاً على مجتمع الفن والشعر والموسيقى في المنطقة بطريقة عزفه الفريدة للعود، وبما كان يغنيه من أشعار غير مألوفة، وبعد أن طرد العسيري من البحرين وغادرها إلى بومباي بناء على شكوى من قاضي الشرع قاسم بن مهزع، سافر ابن فارس إليه من أجل الاستزادة من فنه، والتعرف منه على نصوص جديدة من الأشعار الحمينية لتلحينها وغنائها كأصوات بحرينية بطريقة متميزة وخاصة وغير مسبوقة، إذ إن ابن فارس في محاولاته لاكتساب المزيد من الدراية كان يجالس كل مطرب يزور البحرين فيسمع، ويستفيد منه، وكان يسافر باحثاً عن اللحن والكلمة كما فعل في زيارته إلى بومباي، ومن قبلها إلى مسقط.

وهكذا اشتهر ابن فارس كونه مطرباً له جمهور من المعجبين بفنه المتميز، وأدائه الرائع، وأسلوبه الفريد في الأداء، واختيار النصوص الجيدة من عيون الشعر العربي الفصيح والشعر الحميني والشعبي منذ عشرينيات القرن العشرين. كما أنه نجح في استلهام الفنون الشعبية السائدة آنذاك، ووضع قوانين واشتراطات وتقاليد وأعراف لها من تلك التي سار عليها من بعده تلامذته ومريدوه، فأطلقت عليه ألقاب كثيرة مثل: «سيد فن الصوت» و«ملك الصوت الخليجي» و«مجدد فن الصوت» وغيره.

ويقول أنطوان بولس مطر في الصفحة 20 من كتابه «خليج الأغاني» ما مفاده أن ابن فارس يعود له الفضل في جعل ممارسة الصوت ظاهرة مقبولة لدى الأمراء والتجار والعامة على حد سواء، وأنه هو الذي منح غناء الصوت في البحرين والخليج قيمته وفرض احترامه لدى الآخرين، بل هو الذي قام أيضاً بنسخ الأسلوب القديم في غناء الصوت تدريجياً، وجعل للسمرات طعماً ولوناً خاصاً، فأسهم بذلك في ذيوع فن الصوت البحريني وانتشاره.

ولأن «الدور» هي مكان السمر والطرب وتجمُع المطربين وعشاق الفن، وغالباً ما تستأجر أو يبنيها صاحبها لهذا الغرض، ويطلق عليها اسمه أو اسماً آخر، فقد بنى ابن فارس أو استأجر عدة دور، فمن حجرة بناها من جريد النخل (برستي) في حالة بوماهر بالمحرق، إلى حجرة بناها من الحجارة والطين في فريج الصنقل سماها «دار البصرة»، إلى دار استأجرها قرب «بيت فليفل» في المحرق (تركها عندما سافر لتسجيل أغانيه على أسطوانات في بغداد).

وحينما تم إغلاق دور الطرب لبعض الوقت سنة 1932 اتجهت السمرات والقعدات الفنية للانعقاد في مناطق خارج المحرق مثل «الجسرة» و«القرية» و«البدعة».

وطبقاً لمبارك العماري فإن ابن فارس تخلى وقتها وحتى عام 1939 عن الغناء في دور خاصة به وراح يتنقل، مصطحباً كلبته «تيكوه» بين الدور الموجودة.. يغني في بعضها (مثل «دار مسعود بن مكتوب» و«دار السيفية»)، ويكتفي بالسماع فقط في بعضها الآخر (مثل «دار عبدالله بن دينه»، و«دار ولد مجلي» بالمحرق).

من جهة ثانية شهدت تلك الفترة اهتمام بن فارس بتسجيل أغانيه على أسطوانات لدى معامل التسجيل العربية في البصرة وبغداد وحلب من بعد رفض وتردد.

ولهذا الغرض سافر إلى هناك بصحبة تلميذيه ضاحي بن وليد، ومحمد زويد، وأخيه الأصغر صقر، وبعض المروسين البحرينيين، حيث سجل العديد من الأسطوانات لأشهر أغانيه، معتمداً في الكمان على العازف الشهير صالح الكويتي، ومعتمداً في آلة القانون (كان ابن فارس أول من أدخلها على فن الصوت) على العازف العراقي يوسف زعرور الصغير.

وقبل وفاته في 23 نوفمبر 1947، ودفنه بمقبرة المحرق كان ابن فارس، الذي عرف بالكثير من الخصال الحميدة كبرّه بوالديه وتواضعه ورهافة حسه وعطفه على الفقراء واعتزازه بفنه كوسيلة لإشباع هوايته وليس سعياً وراء المال والشهرة، قد ضعف صوته فكان كلما أراد غناء عمل قديم له يتذكر شبابه وقوة صوته آنذاك، فيشعر بالأسى، وتأتيه العبرة.

ترك ابن فارس لنا قائمة طويلة من الأغاني والألحان بنصوص غنائية قديمة أو بنصوص مستحدثة، لعل أهمها: «قريب الفرج يا دافع الهم والعسر»، «لان الحصا والذي أهواه ما لانا»، «إن العواذل قد كووا»، «صبا نجد خبرني عن الربع والحمى»، «يشوقني من الحي برق لامع»، «يقول بومعجب نهار الأحد»، «جاءت تودعني والدمع يسبقها»، «هيفاء إنْ قال لها الجمال انهضي»، «يا الله يامنْ على العرش استوى»،«سكر الصب في هواك وغنى»، «الله اليوم أنا سالك بطه والأحزاب»، «جلا في الكأس جالية الهموم»، «لولا النسيم لذكراكم يؤانسني»، «اغنم زمانك أمانه يا حبيب اغنم»، «مال غصن الذهب»، «يا واحد الحسن ارحم واحد الكمد»، وغيرها.