الملاعب الأوروبية.. حلة جديدة واستثمار استراتيجي

سانتياغو برنابيو ملعب ريال مدريد في العاصمة الإسبانية
سانتياغو برنابيو ملعب ريال مدريد في العاصمة الإسبانية

تشهد الساحة الرياضية في أوروبا تحولاً مالياً واقتصادياً حقيقياً، حيث باتت عملية تجديد وبناء الملاعب خطوة استراتيجية، تهدف إلى تحويل المنشآت الرياضية إلى مصادر دخل ثابتة ومستدامة للأندية، ويأتي هذا التحول في ظل انخفاض عوائد حقوق البث التلفزيوني، وارتفاع تكاليف أجور اللاعبين، ما دفع الأندية إلى تبني نماذج تمويل، ترتكز على الاستثمارات طويلة الأجل والديون المجدولة، لتصبح الملاعب الأوروبية - التي غالباً ما تشاهد مباريات مثيرة - مصدر دخل متجدداً للأندية، يغطي كثيراً مما فقدته، بسبب تراجع العائد من المصادر الأخرى.

ويمثل تجديد الملاعب الأوروبية تحولاً شاملاً في نموذج تمويل كرة القدم، إذ تتحول المنشآت الرياضية إلى أصول استراتيجية تدر إيرادات ضخمة، وبينما تشهد إسبانيا استثمارات جريئة تحدث تغييراً ملموساً في البنية التحتية لملاعبها تواجه إيطاليا تحديات هيكلية، تستدعي إصلاحات جذرية لتحديث منشآتها.

وأفاد تقرير أصدرته شركة «مورنينغ ستار» الأمريكية (إحدى الشركات) المتخصصة في التصنيف الائتماني، خلال شهر فبراير، أن تجديد أو إعادة بناء الملاعب لم يعد مجرد تحسين للمظهر الخارجي، بل أصبح أداة مالية استراتيجية، حيث تعتمد الأندية الحديثة على نماذج تمويل ترتكز على مشروعات منفصلة، وهياكل ديون طويلة الأجل، تُدار عبر كيانات خاصة تبعدها عن مخاطر الإفلاس، وتستند هذه النماذج إلى الحصول على إيرادات متنوعة تشمل بيع التذاكر، وتوفير المقاعد المميزة، واستغلال حقوق التسمية والرعاية، مما يسهم في تحسين التصنيف الائتماني، وتأمين تدفقات نقدية إضافية لاستثمارها في الفرق.

استثمارات جريئة

وتشهد إسبانيا مرحلة تحول ملموسة في مجال تحديث الملاعب؛ إذ تسعى أندية الدرجة الأولى إلى تقليص الفجوة التاريخية مع نظيراتها الأوروبية عبر ضخ استثمارات ضخمة، فقد أدخلت إحدى شركات إدارة الأصول استثماراً يقارب الملياري يورو في الدوري الإسباني، مما أتاح للأندية الصغيرة تجديد منشآتها القديمة، كما قامت أندية كبرى من عمالقة الكرة مثل ريال مدريد وبرشلونة بتحديث ملاعبها بتكاليف تجاوزت المليار يورو، بهدف تحويلها إلى منشآت حديثة تعد مناجم ذهب حقيقية، ومن المتوقع أن يرتفع متوسط عمر ملاعب الدرجة الأولى في إسبانيا بشكل كبير مع استمرار هذه التجديدات، مما يزيد من قدرتها على جذب الإيرادات من حقوق التسمية، وتوسيع خيارات المقاعد المميزة، وتوفير خدمات الضيافة المتطورة. وتأتي هذه التحولات في وقت تشهد فيه عدة أندية إعلانات عن مشاريع تجديد وبناء ملاعب جديدة أو إعادة تأهيل المنشآت القائمة، معتمدين على استراتيجيات مالية مبتكرة لتعزيز الإيرادات.

أمثلة رائدة

ويعد مشروع نادي أتلتيكو مدريد لتجديد ملعب الرياض إير متروبوليتانو نموذجاً يظهر كيف يمكن استغلال حقوق التسمية والرعاية لخلق تدفقات نقدية إضافية، وفي سياق مماثل يبرز ملعب نادي يوفنتوس، الذي يُعرف بملعب أليانز، كونه حالة ناجحة للاستفادة من منشأة جديدة في تعزيز الإيرادات التجارية ومبيعات التذاكر، كما يمثل ملعب نادي بايرن ميونيخ، المعروف باسم أليانز أرينا، رمزاً للتجديد العصري من خلال دمج تقنيات حديثة، تهدف إلى تحسين تجربة المشجع وزيادة الدخل، وفيما يتعلق بنادي برشلونة فإن تحديث ملعبه المعروف بسبوتيفاي كامب نو يشمل تقديم خدمات إضافية مثل الجولات السياحية والمتاحف، مما يحول المنشأة إلى وجهة سياحية متكاملة، تجمع بين الرياضة والثقافة.

إيطاليا.. إرث عتيق

على النقيض من التجربة الإسبانية تواجه الأندية الإيطالية تحديات عدة، بسبب قدم المنشآت واعتمادها على ملاعب مملوكة للجهات العامة؛ إذ يمتلك ناديان فقط في الدوري الإيطالي ملاعبهما الخاصة، وهما يوفنتوس وأتالانتا، مما يقيد إمكانية الاستثمار في التجديد والتطوير، كما تُعاني المنشآت من قيود هيكلية تصعب إضافة المقاعد المميزة أو استغلال الملعب في فعاليات غير كروية، إلى جانب المشاكل المالية المزمنة، التي أدت إلى إفلاس بعض الأندية رغم التدخلات الحكومية لتأجيل الضرائب، مما يزيد من صعوبة تحديث المنشآت الرياضية.

وتعد حالة ملعب «سان سيرو» في مدينة ميلان، الذي شُيد في العشرينيات وما زال يحتفظ بطابعه التقليدي، مثالاً واضحاً على التحديات التي تواجهها الأندية الإيطالية، في ظل الأنظمة التنظيمية الصارمة والمتطلبات البيئية والتخطيط العمراني، وقد دفعت هذه المعوقات ناديي ميلان وإنتر ميلان إلى النظر في مشروع تطوير مشترك لملعب جديد، يضمن مرونة تشغيلية، واستغلالاً تجارياً أفضل.

أحداث كبرى

لطالما كانت البطولات الدولية والأحداث الرياضية الكبرى، مثل الألعاب الأولمبية، وكأس العالم، وبطولات الاتحاد الأوروبي، دافعاً رئيسياً لتحديث الملاعب، ففي الدول التي استضافت مثل هذه الفعاليات تم تجديد المنشآت لتلبية المتطلبات الحديثة، مما أسهم في رفع مستوى التجربة الجماهيرية، وزيادة الإيرادات، أما في إسبانيا وإيطاليا فقد كان تأخر استضافة هذه البطولات أحد العوامل التي أدت إلى تراجع مستوى تجديد المنشآت؛ إلا أن الاستعدادات لاستضافة كأس العالم لعام 2030، الذي ستشترك فيه إسبانيا والبرتغال والمغرب، وبطولة أمم أوروبا لعام 2032، التي ستستضيفها إيطاليا مع تركيا، من المتوقع أن تحفز استثمارات جديدة، تعيد للأندية قدرتها التنافسية.

آفاق مستقبلية

التجديد في البنية التحتية للملاعب ليس مجرد تحديث تجميلي، بل هو خطوة استراتيجية نحو تحقيق استقلال مالي أكبر، فالأندية التي تمتلك ملاعبها الخاصة تكتسب مرونة أكبر في استغلال حقوق التسمية، وتنويع مصادر الدخل، مما يتيح لها تحسين مراكزها المالية، وتوسيع استثماراتها في صفوف اللاعبين، ومن المحتمل أن يؤدي هذا التحول إلى ظهور فئة جديدة من الكيانات الرياضية ذات النمو المالي المتسارع، مما يعيد تشكيل معالم المنافسة في كرة القدم الأوروبية، ويخلق بيئة متباينة بين الأندية من حيث القوة المالية، والقدرة على الابتكار.